فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُ‏}‏ أي لله تعالى ‏{‏دَعْوَةُ الحق‏}‏ أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه، والإضافة للإيذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال‏:‏ كلمة الحق؛ والمراد أن إجابة ذلك له تعالى دون غيره، ويؤيده ما بعد كما لا يخفى وقيل‏:‏ المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فإنه لا يدعي فيه إلا الله تعالى كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏ وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية، وقيل‏:‏ الدعوة بمعنى الدعاء أي طلب الإقبال، والمراد به العبادة للاشتمال، والإضافة على طرز ما تقدم، وبعضنم يقول‏:‏ إن هذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والكلام فيها شهير، وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو الله تعالى دون غيره‏.‏

ويفهم من كلام البعض على ما قيل أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة، والمعنى أنه الذي يحق أن يدعي إلى عبادته دون غيره، ولا يخفى ما بين المعنيين من التلازم فإنه إذا كانت الدعوة إلى عبادته سبحانه حقاً كانت عبادته جل شأنه حقاً وبالعكس، وعن الحسن أن المراد من الحق هو الله تعالى، وهو كما في «البحر» ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري، والمعنى عليه كما قال‏:‏ له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب، والأول ما أشرنا إليه أولاً وجعل الحق فيه مقابل الباطل‏.‏

وبين صاحب الكشف حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعي ويعبد رداً لمن يجادل في الله تعالى ويشرك به سبحانه الأنداد ولا بد من أن يكون في الإضافة إشعار بهذا الاختصاص، فإن جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر، وإن جعل اسماً من أسمائه تعالى كان الأصل لله دعوته تأكيداً للاختصاص من اللام والإضافة ثم زيد ذلك بإقامة الظاهر مقام المضمر معاداً بوصف ينبىء عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل‏:‏ له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى إياه فيتقيد بحسب كل مقام للدلالة على أن مقابله لا حقيقة له، وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى‏.‏ وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله إلى الله دعوة الله وهو نظير قولك‏:‏ لزيد دعوة زيد ولا يصح ذلك، واستغنى عما قال العلامة الطيبي في تأويله‏:‏ من أن المعنى ولله تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعاً بصيراً كريماً لا يخيب سائله فيجيب الدعاء فإن ذلك كما ترى قليل الجدوى‏.‏

ويعلم مما في «الكشف» وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم، وقال بعضهم‏:‏ وجه تعلق هذه الجملة التي قبلها أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ المحال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏ إن كان سبب النزول قصة أربد‏.‏ وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ اللهم احبسهما عني بما شئت ‏"‏ أو دلالة على رسوله صلى الله عليه وسلم على الحق، وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديد بإجابة دعائه عليه الصلاة والسلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير الله تعالى، ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا‏:‏ إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل‏.‏

‏{‏والذين يَدْعُونَ‏}‏ أي الأصنام الذين يدعونهم أي المشركون، وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير، وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد إليه ومفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ محذوف أي الأصنام وحذف لدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبي عمرو ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ بتاء الخطاب، وضمير ‏{‏لا‏}‏ عليه عائد على ‏{‏يَتَذَكَّرُونَ الذين‏}‏ وعلى الثاني عائد على مفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ وعلى كل فالمراد لا يستجيب الأصنام ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي للمشركين ‏{‏بِشَىْء‏}‏ من طلباتهم ‏{‏إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء‏}‏ أي لا يستجيبون شيئاً من الاستجابة وطرفاً منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد يطلبه ويدعوه ‏{‏لِيَبْلُغَ‏}‏ أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه ‏{‏فَاهُ وَمَا هُوَ‏}‏ أي الماء ‏{‏بِبَالِغِهِ‏}‏ أي ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه وبسط يديه إليه، وجوز أبو حيان كون ‏{‏هُوَ‏}‏ ضمير الفم والهاء في ‏{‏بالغه‏}‏ ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلاً منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال‏.‏

وجوز بعضهم كون الأول ضمير ‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط‏}‏ والثاني ضمير «الماء» قال أبو البقاء‏:‏ ولا يجوز أن يكون الأول عائداً على «باسط» والثاني عائداً على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال‏:‏ وما هو ببالغه الماء، والجمهور على ما سمعت أولاً، والغرض كما قال بعض المدققين نفي الاستجابة على البت بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مظطر إليه، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلاً عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير، فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا إليه، والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبنى للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر، وجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناءاً على استلزام المصدر من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً فكأنه قيل‏:‏ لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق‏:‏

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحت أو مجلف

أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت أو مجلف‏.‏ وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول وإضافته إلى ‏{‏باسط‏}‏ من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْئَمُ الانسان مِن دُعَاء الخير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49‏]‏ والفاعل ضمير ‏{‏الماء‏}‏ على الوجه الثاني في الموصول، وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء، والإشارة إليه كما أشرنا إليه فيما تقدم، وعلى هذا قيل‏:‏ شبه الداعون لغير الله تعالى بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشراً أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل، وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى، ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وإرادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولإشمام طرف من التهكم، والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء‏:‏ هو كالراقم على الماء؛ فإن المشبه هو الساعي مقيداً بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيداً بكونه على الماء كذلك فيما نحن فيه، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم‏.‏ نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن أعم عام الأحوال أي لا يستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط‏.‏ وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه، وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايراً له كما قيل، وعن أبي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لا يحصل على شيء، ثم قال‏:‏ والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بذلك، وأنشد قول الشاعر‏:‏

فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الود مثل القابض الماء باليد

وقوله‏:‏

وإني وإياكم وشوقاً إليكم *** كقابض ماء لم تسعه أنامله

وهو راجع إلى الوجه الثاني خلا أنه لا يظهر من ‏{‏باسط‏}‏ معنى قابض فإن بسط الكف ظاهر في نشر الأصابيع ممدودة كما في قوله‏:‏

تعود بسط الكف حتى لو أنه *** أراد انقباضاً لم تطعه أنامله

وكيفما كان فالمراد بباسط شخص باسط أي شخص كان، وما يقتضيه ظاهر ما روي عن بكير بن معروف من أنه قابيل حيث أنه لما قتل أخاه جعل الله تعالى عذابه أن أخذ بناصيته في البحر ليس بينه وبين الماء إلا إصبع فهو يريده ولا يناله مما لا ينبغي أن يعول عليه‏.‏ وقرىء ‏{‏كباسط كَفَّيْهِ‏}‏ بالتنوين أي كشخص يبسط كفيه ‏{‏وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ أي في ضياع وخسار وباطل، والمراد بهذا الدعاء إن كان دعاء آلهتهم فظاهر أنه كذلك لكنه فهم من السابق وحينئذٍ يكون مكرراً للتأكيد، وإن كان دعاءهم الله تعالى فقد استشكلوا ذلك بأن دعاء الكافرين قد يستجاب وهو المصرح به في الفتاوى، واستجابة دعاء إبليس وهو رأس الكافر نص في ذلك‏.‏ وأجيب بأن المراد دعاؤهم الله تعالى بما يتعلق بالآخرة، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أصوات الكفار محجوبة عن الله تعالى فلا يسمع دعاؤهم، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد دعاؤهم مطلقاً ولا يقيد بما أجيبوا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ‏}‏ وحده ‏{‏يَسْجُدُ‏}‏ يخضع وينقاد لا لشيء غيره سبحانه استقلالاً ولا اشتراكاً، فالقصر ينتظم القلب والإفراد ‏{‏مَن فِى السموات والارض‏}‏ من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن، وتخصيص انقياد العقلاء مع كون غيرهم أيضاً كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أن فيما سيأتي إن شاء الله تعالى بياناً لذلك، وقيل‏:‏ المراد ما يشمل أولئك وغيرهم، والتعبير بمن للتغليب ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ نصب على الحال، فإن قلنا بوقوع المصدر حالاً من غير تأويل فهو ظاهر وإلا فهو بتأويل طائعين وكارهين أي أنهم خاضعون لعظمته تعالى منقادون لإحداث ما أراد سبحانه فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاؤوا أو أبوا من غير مداخلة حكم غيره جل وعلا بل غير حكمه تعالى في شيء من ذلك‏.‏

وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الإكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناءً على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره، وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الإباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة ما يحمل على الفعل أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضاً له وقد مر عن قرب فتذكره، وقيل‏:‏ النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره ‏{‏وظلالهم‏}‏ أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الإنس فقط أو ما يعمهم وكل كثيف‏.‏

وفي «الحواشي الشهابية» ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوز، ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفىء والزوال، وأصل الظل كما قال الفراء مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وهو إما معكوس أو مستو ويبني على كل منهما أحكام ذكروها في محلها ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير، والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد، قيل‏:‏ فلا يقال لم خص بالذكر‏؟‏ وكذا يقال‏:‏ إذا كانا في موضع الحال من الظلال، وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر‏.‏

والغدو جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب، وقيل‏:‏ هو جمع أصل جمع أصيل، وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفاً، وقيل‏:‏ الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز ‏{‏الإيصال‏}‏ بكسر الهمة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الأصيل كما قاله ابن جني هذا، وقيل‏:‏ إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ يخصون السجود به سبحانه قال تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجد لله تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري، وجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها، وهذا على ما قيل‏:‏ مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع للظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن إرادة ما ذكر لا يضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى ما في بعض الشقوق من النظر‏.‏ وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فيسجد كرهاً إما نفاقاً أو يكون الكره أول حالة فيستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد، وقيل‏:‏ الساجد طوعاً من لا يثقل عليه السجود والساجد كرهاً من يثقل عليه ذلك‏.‏ وعن ابن الأنباري الأول من طالت مدة إسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالإسلام إلى أن يألف، وأياً ما كان فمن عام أريد به مخصوص إذ يخرج من ذلك من لا يسجد، وقيل‏:‏ هو عام لسائر أنواع العقلاء والمراد بيسجد يجب أن يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة‏.‏

واختار غير واحد في تفسير الآية ما ذكرناه أولاً، ففي «البحر» والذي يظهر أن مساق الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر لا يستطيعون نفعاً ولا ضراً، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت قهر إرادته تعالى كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّدًا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏ وكون المراد بالظلال الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ما قاله ابن الأنباري، وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب إلى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولاً وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة لله تعالى لا يجدي فإن سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام له تعالى ادخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه؛ وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والارض‏}‏ تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهم ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله تعالى، وقيل‏:‏ إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية‏؟‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب إشعاراً بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء، ويجوز أن يكون ذلك تلقيناً للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه، وقيل‏:‏ إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه‏.‏

وقال مكي‏:‏ إنهم جعلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى الله عليه وسلم فأمر بإعلامهم به، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ وحينئذٍ كيف يقال‏:‏ إنهم جعلوا الجواب فطلبوه‏؟‏ نعم قال البغوي‏:‏ روي أنه لما قال صلى الله عليه وسلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا‏:‏ أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب، وهو بفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى ‏{‏قُلْ‏}‏ الزاماً لهم وتبكيتاً ‏{‏أفاتخذتم‏}‏ لأنفسكم ‏{‏مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ عاجزين ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ‏}‏ وهي أعز عليهم منكم ‏{‏نَفْعاً‏}‏ يستجلبونه ‏{‏وَلاَ ضَرّا‏}‏ يدفعونه عنها فضلاً عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه، والهمزة للإنكار، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معاً، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده، ويفهم على ما قيل من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم، واختلف في الدليل الأول فقيل‏:‏ هو ما يفهم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ وقيل‏:‏ هو ما يفهم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 14‏]‏ الخ فتدبر‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تصويراً لآراثهم الركيكة بصورة المحسوس ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى الاعمى‏}‏ الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها ‏{‏والبصير‏}‏ الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية، وكذا على ما قيل‏:‏ إن المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة وبالثاني العالم بها، وقيل‏:‏ إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن والكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز‏.‏

ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد ‏{‏أَمْ هَلْ تَسْتَوِى‏}‏ التي هي عبارة عن الكفر والضلال ‏{‏وَرَسُولِهِ والنور‏}‏ الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضاً، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس وكفر غيرهم، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر‏.‏ و‏{‏أَمْ‏}‏ كما في «البحر» منقطعة وتقدر ببل والهمزة على المختار، والتقدير بل أهل تستوي، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضاً كما في قوله‏:‏

أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم *** وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، ويجوز فيها بعد ‏{‏أَمْ‏}‏ هذه أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏ ويجوز أن لا يؤتى بها لأن ‏{‏أَمْ‏}‏ متضمنة للاستفهام، وقد جاء الأمران في قوله‏:‏

هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته *** أثر الأحبة يوم البين مشكوم

وقرأ الإخوان‏.‏ وأبو بكر ‏{‏أَمْ هَلْ يَسْتَوِى‏}‏ بالباء التحتية، ثم إنه تعالى أكد ما اقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُواْ‏}‏ أي بل أجعلوا ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ جل وعلا ‏{‏شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ‏}‏ سبحانه وتعالى، والهمزة لإنكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى، والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه ‏{‏فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ‏}‏ بسبب ذلك وقالوا‏:‏ هؤلاء خلقوا كخلق الله تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلاً عما يقدر عليه الخالق، والمقصود بالإنكار والنفي هو القيد والمقيد على ما نص عليه غير واحد من المحققين‏.‏ وفي الانتصاف أن ‏{‏خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ‏}‏ في سياق الإنكار جىء به للتهكم فإن غير الله تعالى لا يخلق شيئاً لا مساوياً ولا منحطاً وقد كان يكفي في الإنكار لولا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق‏.‏

وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقاراً للمخاطب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ وههنا ‏{‏كَخَلْقِهِ‏}‏ جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وارخاء العنان، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووضفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانياً على سبيل التدرج وصف الخلق أيضاً، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئاً، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه‏.‏

والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئاً من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم ‏{‏قُلْ‏}‏ تحقيقاً للحق وارشاداً لهم ‏{‏والله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ من الجواهر والاعراض، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق‏.‏

وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن افعال العباد مخلوقة له تعالى، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم‏.‏ ومن الناس من يحتج أيضاً لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى ‏{‏وَهُوَ الواحد‏}‏ المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية ‏{‏القهار‏}‏ الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فيكف يكون المغلوب شريكاً له تعالى، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله، وهو يحتمل أن يكون من مقول وأن يكون جملة مستأنفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء‏}‏ أي من جهتها على ما هو المشاهد، وقيل‏:‏ منها نفسها ولا تجوز في الكلام‏.‏ واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها، وقيل‏:‏ انزل منها نفسها ‏{‏مَاء‏}‏ أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الإجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز في ‏{‏مِنْ‏}‏ ‏{‏فَسَالَتْ‏}‏ بذلك ‏{‏أَوْدِيَةٌ‏}‏ دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد‏.‏

قال أبو علي الفارسي‏:‏ ولا يعلم أن فاعلاً جمع على افعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير‏.‏ ثم ان وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار‏.‏ ووزن فعيل بجمع على أفعلة كجريب وأجربة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال‏:‏ واد وأودية ويجمع فعيل فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه‏.‏ ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل‏.‏ ولا رابع لها‏.‏ وفي شرح التسهيل ما يخالفه‏.‏ والوادي الموضع الذي يسيل فيه المار بكثيرة، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على المار الجاري فيه، وهو اسم فاعل من ودي إذا سأل فإن أريد الأول فالإسناد مجازي لو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريات لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى ‏{‏بِقَدَرِهَا‏}‏ أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغراً وكبراً لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعى لكثرة الموارد، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما أن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفاً أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت، وقال أبو البقاء‏:‏ إنه في موضع الصفة لأودية، وجوز أن يكون متعلقاً بأنزل‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والاشهب العقيلي‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏بِقَدَرِهَا‏}‏ بسكون الدال وهي لغة في ذلك‏.‏

‏{‏فاحتمل‏}‏ أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر ‏{‏السيل‏}‏ أي المار الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهوداً مذكوراً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْدِيَةٌ‏}‏ ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عنى به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان مكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شراً له أي الكذب، ولو جاء هنا مضمراً لكانجائزاً عائداً على المصدر المفهوم من سالت اه‏.‏

وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت‏.‏ وأجيب بأنه بطريق الاستخدام‏.‏ ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقياً كان أو مجازياً وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتص بتلك فكيف يتصور فيه الاستخدام‏.‏ نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر اه‏.‏ وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل ‏{‏زَبَدًا‏}‏ هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش مائه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم، وهو معنى قول ابن عيسى‏:‏ إنه وضر الغليان وخبثه، قال الشاعر‏:‏

وما الفرات إذا جاشت غواربه *** ترمي أواذيه العبرين بالزبد

‏{‏رَّابِيًا‏}‏ أي عالياً منتفخاً فوق الماء، ووصف الزبد بذلك قيل‏:‏ بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبداً فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقاً للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادىء الرأي من غير مداخلة في الحق ‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ‏}‏ ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الايقاد ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره، وقرأ أكثر السبعة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة ‏{‏تُوقِدُونَ‏}‏ بتاء الخطاب، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى النار‏}‏ عند أبي البقاء‏.‏ والحوفي، قال أبو علي‏:‏ قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها، وقال مكي‏.‏ وغيره‏:‏ إن ‏{‏فِى النار‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من الموصول أي كائناً أو ثابتاً فيها، ومنعوا تعلقه بتوقدون قالوا‏:‏ لأنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى، وقال أبو حيان‏:‏ لو قلنا‏:‏ إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضاً التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقيل‏:‏ إن زيادة ذلك للأشعار بالمبالغة في الاعتمال للاذابة وحصول الزبد؛ والمراد بالموصول نحو الذهب‏.‏ والفضة‏.‏ والحديد‏.‏ والنحاس‏.‏ والرصاص، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالايقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهاراً لكبريائه جل شأنه على ما قيل، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع‏}‏ فوفي كل من المقامين حقه فما قيل‏:‏ إن الحل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل‏.‏

ونصب ‏{‏ابتغاء‏}‏ على أنه مفعول له كما هو الظاهر، وقال الحوفي‏:‏ إنه مصدر في موضع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات ‏{‏زَبَدٌ‏}‏ خبث ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه رفع ‏{‏زَبَدٌ‏}‏ على أنه مبتدأ خبره ‏{‏مّمَّا تُوقِدُونَ‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئاً منه‏.‏ واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل، وإنما لم يتعرص لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان انزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعمله إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلاً فيه بل له إخلال بذلك ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة‏:‏ ‏{‏يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏ أي مثل الحق ومثل الباطل، والحذف للابناء على كمال التمثال بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل ‏{‏فَأَمَّا الزبد‏}‏ من كل من السيل وما يوقدون عليه، وأفردو لم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك ‏{‏فَيَذْهَبُ‏}‏ مرمياً به يقال‏:‏ جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به، ويقال‏:‏ أجفأ أيضاً بمعناه، وقال ابن الأنباري‏:‏ جفاء أي متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته، ويقال‏:‏ جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف، وقرىء ‏{‏جفالاً‏}‏ باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقاً أيضاً أخذاً من جفلت الريح الغيم كفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة، قال ابن أبي حاتم‏:‏ ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان إعرابياً جافياً، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، والنصب على الحالية ‏{‏جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس‏}‏ أي من الماء الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث ‏{‏فَيَمْكُثُ‏}‏ يبقى ‏{‏فِى الارض‏}‏ أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها؛ وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل‏:‏ النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أو لا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى‏.‏

وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعاً بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعاً‏.‏

وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أحادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به»

وقال ابن عطية‏:‏ صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرغ من ذلك جعله مثالاً للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل‏.‏ وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الضرب العجيب ‏{‏يَضْرِبُ الله الامثال‏}‏ في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏ إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعاً‏.‏ وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالاً ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيباً وترهيباً فقال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ‏}‏ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيراً بليغاً في تسخير والنفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة‏.‏ وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا‏.‏ وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر ‏{‏والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ‏}‏ سبحانه وعاندوا الحق الجلي ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض‏}‏ من أصناف الأموال ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعاً غير متفرق بحسب الأزمان ‏{‏وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ‏}‏ أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه جميعاً ليتخلصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موقع السوأي المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل‏:‏ وللذين لم يستجيبوا له السوأى‏.‏ وتعقب بأن الشرطية وان دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوباً باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام؛ فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب‏}‏ وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيناً لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبراً عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل‏:‏ والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال‏:‏ وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده‏.‏ واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ إلى آخر الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ الحسنى‏}‏ تقتضي أن يقال‏:‏ وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيىء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ‏}‏ الخ بدل ما ذكر، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك‏.‏ وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضاً صاحب الكشف قال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ‏}‏ في مقابلة الحسنى يدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير، وأوثر الأجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي‏.‏

والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعنى بالمناقشة‏.‏ وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ‏}‏ أي مرجعهم ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ بيان لمؤدي ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة ‏{‏وَبِئْسَ المهاد‏}‏ أي المستقر، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا‏}‏ متعلقة ‏{‏يَضْرِبُ الله الامثال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ‏}‏ معطوف على الموصول الأول، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ‏}‏ الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى، قال أبو حيان‏:‏ والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً وإنما هو نفى الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ولأنه حينئذ يكون ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ‏}‏ الخ كلاماً مفلتاً أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم الخ، ولو كان هناك حرف يربط ‏{‏لَوْ‏}‏ بما قبلها زال التفلت، وأيضاً أنه يوهم الإشراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً‏:‏ وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجهاً لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموماً بمثل هذين، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضاً ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف، وأيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لَهُمْ‏}‏ الخ مفلتاً وقد قالوا‏:‏ إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون انه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الإشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوماً انتهى‏.‏ قال بعض المحققين‏:‏ إن ما ذكر متوجه بحسب بادىء الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الانصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمناً والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أو لا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضاً، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقاً هو المتبارد وما ذكر لا يدفع الإيهام‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة‏:‏ وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل‏.‏ نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ امرأة فِرْعَوْنَ إِذْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 11‏]‏ ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يجعل في حكم أن يقال‏:‏ كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين؛ ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال‏:‏ إن جعل ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا‏}‏ من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالاصالة ومن صلة ‏{‏يَضْرِبُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل‏.‏

ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالاً والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وانه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرىء القيس‏:‏

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى *** بصبح وما إلا صباح منك بأمثل

عن قول المتنبي‏:‏

إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم *** أكل فصيح قال شعراً متيم

وهو الذي فهمه السلف من الآية، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدءون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا‏}‏ وقال صاحب المرشد‏:‏ إنه وقف تام والوقف على ‏{‏الحسنى‏}‏ حسن وكذا على ‏{‏لاَفْتَدَوْاْ بِهِ‏}‏ والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ ‏{‏المر‏}‏ أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة ‏{‏تِلْكَ ءايات‏}‏ علامات ‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 1‏]‏ الجامع الذي هو الوجود المطلق ‏{‏الله الذى رَفَعَ السموات *بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل‏:‏ النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل‏:‏ رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ بالتأثير والتقويم، وقيل‏:‏ عرش القلب بالتجلي ‏{‏وَسَخَّرَ الشمس‏}‏ شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية ‏{‏والقمر‏}‏ قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات ‏{‏كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ وهو كما له بحسب الفطرة ‏{‏يُدَبّرُ الامر‏}‏ في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب المبادي ‏{‏يُفَصّلُ الآيات‏}‏ في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات ‏{‏لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ‏}‏ عند مشاهدة آيات التجليات

‏{‏تُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ عين اليقين‏.‏

وقال ابن عطاء‏:‏ يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه ‏{‏وَهُوَ الذى مَدَّ الارض‏}‏ أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها ‏{‏أَنْهَاراً‏}‏ من علوم الحقائق ‏{‏وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة ‏{‏يغشى وَهُوَ الذى‏}‏ تجلى الجلال وتجلى الجمال ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 3‏]‏ في آيات الله تعالى، قال أبو عثمان‏:‏ الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير، وقيل‏:‏ تصفيته لوارد الفوائد، وقيل‏:‏ الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر ‏{‏وَفِى الارض قِطَعٌ متجاورات‏}‏ فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقول العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين، وقيل‏:‏ في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها ‏{‏جنات مّن أعناب‏}‏ أي أعناب العشق ‏{‏وَزَرْعٌ‏}‏ أي زرع دقائق المعرفة ‏{‏وَنَخِيلٌ‏}‏ أي نخل الإيمان ‏{‏صنوان‏}‏ في مقام الفرق ‏{‏وَنَخِيلٌ صنوان‏}‏ في مقام الجمع، وقيل‏:‏ صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه ‏{‏يسقى بِمَاء واحد‏}‏ وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق ‏{‏وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ في الطعم الروحاني، وقيل‏:‏ أشير أيضاً إلى أن في أرض الجسد قطعاً متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والاذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة على العفة وهكذا ‏{‏وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ‏}‏ بعد ظهور الآيات ‏{‏مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى‏.‏

وقيل‏:‏ إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأمره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيآت والأحوال والأوضاع والصور، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جيديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والإعراض كلها شؤنه تعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الاعراض، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملاً ولا يكاد يدرك ما يقوله بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ فلم يعرفوا عظمته سبحانه ‏{‏وَأُوْلَئِكَ الاغلال فِى أعناقهم‏}‏ فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنتكسة إلى النظر في الآيات ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏ لعظم ما أتوا به ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة‏}‏ بمناسبة استعدادهم للشر ‏{‏وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات‏}‏ عقوبة أمثالهم ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ‏}‏ أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ لمن رسخت فيه ‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ‏}‏ تشهد له صلى الله عليه وسلم بذلك ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ ما عليك إلا انذارهم لا هدايتهم ‏{‏وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ هو الله تعالى، وقيل‏:‏ لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق ‏{‏الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى‏}‏ فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد ‏{‏وَمَا تَغِيضُ الارحام‏}‏ أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها ‏{‏وَمَا تَزْدَادُ‏}‏ بالتزكية وبركة الصحبة ‏{‏وَكُلَّ شىْء‏}‏ من الكمالات ‏{‏عِندَهُ‏}‏ سبحانه ‏{‏بِمِقْدَارٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ معين على حسب القابلية ‏{‏سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول‏}‏ في مكمن استعداده ‏{‏وَمَنْ جَهَرَ بِهِ‏}‏ بإبرازه إلى الفعل ‏{‏وَمَنْ هو مستخف بالليل‏}‏ ظلمة ظلمة نفسه

‏{‏وَسَارِبٌ بالنهار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏ بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح ‏{‏لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جن القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها أياه ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ‏}‏ من النعم الظاهرة أو الباطنة ‏{‏حتى يُغَيّرُواْ مّمَّا بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ من الاستعداد وقوة القبول؛ قال النصر أبادي‏:‏ إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوقة مناقشة العوام، وعن بعض السلف أنه قال‏:‏ إن الفأرة مزقت خفى وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها على وتمثل بقول الشاعر‏:‏

لو كنت من مازن لم تستبح إبلى *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

‏{‏وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ إذ الكل تحت قهره سبحانه، قال القاسم‏:‏ إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم، ولله تعالى در من قال‏:‏

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجنى عليه اجتهاده

‏{‏هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق‏}‏ أي برق لوامع الأنوار القدسية ‏{‏خَوْفًا‏}‏ خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه ‏{‏وَيُنْشِىء السحاب الثقال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ برق المكاشف وينشيء للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة، وأنشدوا للشبلى‏:‏

أظلت علينا منك يوماً غمامة *** أضاءت لنا رقاً وأبطا رشاشها

فلا غيمها يصحو فييأس طامع *** ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها

وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي، وأنشدوا‏:‏

ما كان ما أوليت من وصلنا *** إلا سراجاً لاح ثم انطفى

وذكر الإمام الرباني قدس سره في المكوتبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا برقى وأطال الكلام في ذلك مخالفاً لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيى الدين قدس سه‏.‏ وغيره، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقى كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم ‏{‏وَيُسَبّحُ الرعد‏}‏ أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبساً ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ وإثبات ما ينبغي له عن شأنه ‏{‏والملئكة‏}‏ وتسبح ملائكة القوى الروحانية ‏{‏مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ من هيبتة جلاله جل جلاله ‏{‏وَيُرْسِلُ الصواعق‏}‏ هي صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلى ‏{‏فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء‏}‏ فيحرقه عن بقية نفسه، وفي «الخبر» إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال ابن الزنجاني‏:‏ الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة، وكأني بك تقول‏:‏ إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل‏.‏

والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى، ولعلك تقول‏:‏ كان الأولى مع هذا ترك ذلك‏.‏ فنقول‏:‏ قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت ‏{‏وَهُمْ يجادلون فِى الله‏}‏ بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته ‏{‏وَهُوَ‏}‏ سبحانه ‏{‏شَدِيدُ المحال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏ في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله‏:‏

هيهات أن تصطاد عنقاء البقا *** بلعابهن عناكب الأفكار

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الحق‏}‏ أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه ‏{‏والذين يَدْعُونَ‏}‏ الأصنام ‏{‏لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ‏}‏ أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة ‏{‏وَمَا دُعَاء الكافرين‏}‏ المحجوبين ‏{‏إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 14‏]‏ أي ضياع لأنهم لا يدعون الإله الحق وإنما يدعون إلها توهموه ونحتوه في خيالهم ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ‏}‏ ينقاد ‏{‏مَن فِى السموات والارض‏}‏ من الحقائق الروحانيات ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ شاؤا أم أبوا ‏{‏وظلالهم‏}‏ هياكلهم ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏ أي دائماً؛ وقيل‏:‏ يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعاً ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرهاً‏.‏

وقيل‏:‏ الساجدون طوعاً أهل الكشف والشهود والساجدون كرهاً أهل النظر والاستدلال ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء‏}‏ من سماء روح القدس ‏{‏مَاء‏}‏ أي ماء العلم ‏{‏فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ‏}‏ أي أودية القلوب ‏{‏بِقَدَرِهَا‏}‏ بقدر استعدادها ‏{‏فاحتمل السيل زَبَدًا‏}‏ من خبث صفات أرض النفس ‏{‏رَّابِيًا‏}‏ طافياً على ذلك ‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار‏}‏ نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ‏{‏ابتغاء حِلْيَةٍ‏}‏ طلب زينة النفس لكونها كمالات لها ‏{‏أَوْ متاع‏}‏ من الفضال الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما ‏{‏زَبَدٌ‏}‏ خبث ‏{‏مّثْلِهِ‏}‏ كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس ‏{‏فأما الزبد فيذهب جفاء‏}‏ منفياً بالعلم ‏{‏وأما ما ينفع الناس‏}‏ من المعاني الحقة والفضائل الخالصة ‏{‏فيمكث في الأرض‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ أرض النفس، وقال بعضهم‏:‏ أنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلاً فيحتمل السيل زبداً وحثالة وما يكون مانعاً من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبداً مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعاً خاطر الباطل، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الإنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعاً من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى، وقال ابن عطية‏:‏ روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ الخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه، ثم قال‏:‏ وهذا قول لا يصح والله تعالى أعلم عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، وقد تامسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه‏:‏ إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى‏:‏

‏{‏كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 17‏]‏ معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول‏:‏ إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك ‏{‏للذين استجابوا لربهم‏}‏ بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس ‏{‏الحسنى‏}‏ المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء ‏{‏والذين لم يستجيبوا له‏}‏ تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية ‏{‏لو أن لهم ما في الأرض‏}‏ الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها ‏{‏ومثله معه لافتداو به‏}‏ ما ينالهم من الحجاب والحرمان ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب‏}‏ لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ الحرمان ‏{‏وَبِئْسَ المهاد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 18‏]‏ جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا إِلَيْكَ مِن رَبّكَ‏}‏ من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى هو ‏{‏الحق‏}‏ الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له ‏{‏كَمَنْ هُوَ أعمى‏}‏ عمى القلب لا يدركه ولا يقدر قدره وهو هو فيبقى حائراً في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال، والمراد كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى، والهمزة للإنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وما بين من المصير والمآل كأنه قيل‏:‏ أبعد ما بين حال كل من الفريقين وما لهما يتوهم المماثلة بينهما‏.‏

وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما ‏{‏أَوْ مِن يَعْلَمْ‏}‏ بالواو مكاناً الفاء ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ‏}‏ بما ذكر من المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي ‏{‏أُوْلُواْ الالباب‏}‏ أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الألف ومعارضة الوهم، فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب إليه الراغب، وقيل‏:‏ هما مترادفات والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك‏.‏

والآية على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حمزة رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأبي جهل وقيل‏:‏ في عمر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأبي جهل، وقيل‏:‏ في عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأبي جهل، وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها، والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن ‏{‏فَمَنْ يَعْلَمْ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لِلَّذِينَ استجابوا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8‏]‏ الخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه، وذكر من معنى الآية على ذلك ما ذكر قال‏:‏ ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 1‏]‏ وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله‏}‏ بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا‏:‏ بلى، أو بما عهد الله تعالى عليهم في كتبه من الأحكام فالمراد به ما يشمل جميع الأمم، وإضافة العهد إلى الاسم الجليل من باب إضافة المصدر إلى مفعوله على الوجه الأول ومن باب إضافة المصدر إلى الفاعل على الثاني، وإذا أريد بالعهد ما عقده الله تعالى عليهم يوم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ كانت الإضافة مطلقاً من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وهو الظاهر كما في «البحر»، وحكى حمل العهد على عهد ‏{‏أَلَسْتَ‏}‏ عن قتادة، وحمله على ما عهد في الكتب عن بعضهم، ونقل عن السدي حمله على ما عهد إليهم في القرآن، وعن القفال حمله على ما في جبلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات إلى غير ذلك واستظهر حمله على العموم ‏{‏وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق‏}‏ ما وثقوا من المواثيق بين الله تعالى وبينهم من الإيمان به تعالى والأحكام والنذور وما بينهم وبين العباد كالعقود وما ضاهاها، وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للتي قبلها لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه، وقال ابن عطية‏:‏ المراد بالجملة الأولى يوفون بجميع عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصى الله تعالى بها عبيده ويدهل في ذلك التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي، والمراد بالجملة الثانية أنهم إذا عقدوا في طاعة الله تعالى عهداً لم ينقضوه اه، وعليه فحديث التعميم بعد التخصيص لا يتأتى كما لا يخفى، وقد تقدم الله سبحانه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه بضع وعشرين آية من كتابه كما روى عن قتادة، ومن أعظم المواثيق على ما قال ابن العربي أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه‏.‏

وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد لعظم شأنه فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحداً سواه فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحداً من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال ولم ير من أخرجه فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكيل‏؟‏ فينبغي الاقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضاً‏.‏ وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا‏:‏ لو أن إنساناً جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل‏.‏ نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون فآها ثم آها مما يفعلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ الظاهر العموم في كل ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن‏:‏ المراد صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، وروى نحوه عن ابن جبير، وق لقتادة‏:‏ المراد صلة الأرحام، وقيل‏:‏ الإيمان بالعمل، وقيل‏:‏ صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام وعيادة المرضى وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم، ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الأنبياء عليهم السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعاً ولا يفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة ما يطلب في حقها وجوباً أو ندباً، وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال‏:‏ من أين أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ من أهل خراسان قالوا‏:‏ اتقوا الله تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن محسناً، ومفعول ‏{‏أَمْرٍ‏}‏ محذوف والتقدير ما أمرهم الله به، و‏{‏أَن يُوصَلَ‏}‏ بدل من الضمير المجرور أي ما أمر الله بوصله ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقاً، وقيل‏:‏ المراد وعيده تعالى على قطع ما أمروا بوصله ‏{‏وَيَخَافُونَ سُوء الحساب‏}‏ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام، والخشية والخوف قيل بمعنى، وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيداً وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه، ولذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏يَخْشَوْنَ‏}‏ أولاً ‏{‏وَيَخَافُونَ‏}‏ ثانياً، وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله، لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ وفرق الراغب بينهما فقال‏:‏ الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم‏:‏ شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية، وفرق بينهما أيضاً بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قوياً والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمراً يسيراً، يدل على ذلك أن تقاليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفيه تدبر، والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لا كلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما، نعم اختار الإمام أن المراد من ‏{‏يَخْشَوْنَ رَبَّهُم‏}‏ أنهم يخافونه يخوف مهابة وجلالة زاعماً أنه لولا ذلك يلزم التكرار وفيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ‏}‏ على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف ‏{‏ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ‏}‏ طلباً لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجباً، وقيل‏:‏ المراد طالبين ذلك فنصب ‏{‏ابتغاء‏}‏ على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له، والكلام في مثل الوجه منسوباً إليه تعالى شهير‏.‏

وفي «البحر» أن الظاهر منه ههنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال‏:‏ خرج زيد لوجه كذا، وفيه أيضاً أنه جات الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه، ولذا قال النحويون‏:‏ إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال، فمن الأول ‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ ومن الثاني ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 34‏]‏ ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب‏.‏ والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها‏.‏ وإرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعة والخامصة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه، وعطف قوله سحانه‏:‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص العام، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقاً وهو أولى، ومعنى إقامتها إتمام إركانها وهيآتها ‏{‏وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ‏}‏ بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي نذب ‏{‏سِرّا‏}‏ حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهراً ‏{‏وَعَلاَنِيَةً‏}‏ حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر، وقال بعضهم‏:‏ إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإلا فالأولى أداؤها علانية، وقيل‏:‏ السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم، ولعل تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته، وجاء في الصحيح عد المتصدق سراً من الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة ‏{‏وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة‏}‏ أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وعن ابن جبير يردون معروفاً على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ وقال الحسن‏:‏ إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفواً، وإذا قطعوا وصلوا‏.‏ وقيل‏:‏ يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها‏.‏ وفي الحديث أن معاذاً قال‏:‏ أوصني يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية ‏"‏ وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرفة الذنب‏.‏ وقيل‏:‏ بلا إله إلا الله شركهم، وقيل‏:‏ بالصدقة العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وقيل وقيل، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل‏:‏

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة‏:‏

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

وقال في «الكشف»‏:‏ الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصاً بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة ‏{‏أولئك‏}‏ أي المنعوتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة، وليس المراد بهم أناساً بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة على ما قيل في الأنصار، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قول سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ عقبى الدار‏}‏ أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏ وفسرها الزمخشري أيضاً بالجنة إلا أنه قال‏:‏ لأنها التي أردا الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال‏.‏

وجوز أن يراد بالدار الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة، وقيل‏:‏ الجار والمجرور خبر اسم الإشارة و‏{‏عقبى‏}‏ فاعل الاستقرار، وأياماً كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن المراد مآل أولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر، ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة، والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى‏.‏ والجملة خبر للموصولات المتعاطفة إن رفعت بالابتداء أو استئناف نحوي أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات‏؟‏ إنجعلت الموصولات المتعاطفة صفات لأولي الألباب على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر، والأول أوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين، وحسن العطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَنقُضُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 25‏]‏ وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى‏.‏